Tuesday, June 2, 2020


رحلة إلى مدينة مشرفة بقول الله " باركنا حوله":
احساسات انفعالات انطباعات
د.شير على خان *[1]


من الأحلام التي يحلم به كل باكستاني, هوالسفر إلى بلد من بلاد يعد تاريخيا  ميراث الصالحين من الأنبياء والأولياء(المؤمنون: 50), و ذكر بمبوأ صدق(يونس: 93), ومنبت التين والزيتون (التين: 1-2), ويعتبر سعادة مباركة السفر إلى القرى التي بوركت (سبأ: 18). ولما لا يحلم به و يسري في جسده روح محمدي نفخه فيه لسان عربي ثقفي. وهكذا كنت احلم التشرف بهذه السعادة.  فأتاحنى الله فرصة زيارة بيروت بوسيلة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إذ قبل بحثي للتقديم في المؤتمر الذي عقده المركزبعنوان " العرب من مرج دابق إلى سايكس- ييكو" بتاريخ 21-22 من شهر إبريل في فندق  بريستول. بالإضافة إلى ذلك لقد كلف المركز  تذكرة الطيران  وخدمات الاستضافة لجميع الضيوف. استقبل مدير المركز د. وجيه كوثراني  و جميع أعضاء المركز الضيوف  بعز واحترام وإكرام و وتقدير وكلمات حلوة لا يمكن نسيانها فلهم كل الشكر والتقدير وجزاهم الله خيرا الجزاء.
أنا وصلت متأخرا بيوم بسبب مشكلة حدثت معى في مطار إسلام آباد وهى أن التأشيرة التي أرسلتها إلى المركز ما كانت مسجلة في نظام الوزارة وبدون تسجيلها لا يسمح الدخول إلى لبنان. هى أول مشكلة  كدرت سروري وأحزنتي ولكنني لم يحطني يأس. فاتصلت بمسؤل ترتيبات السفر السيد مازن ابو حجيلي ببيروت في الساعة الثانية ليلا وأخبرته عن المشكلة فقال مؤانسا برحب الصدر وبلهجة  اعتذار على ما حدثت معى: بكرة نقوم بحل المشكلة, ولو تحتاج إلى السكن  في الفندق فنحن ندفع لك.  أفرحني هذا الجواب من الشاب اللبناني ذي الأخلاق العليا. وفي اليوم التالي أرسل لي السيد مازن ابوحجيلي تذكرة جديدة فوصلت بخير وعافية إلى البلد المبارك.
في إبريل 22 في الجلسة بعد الظهر قدمت ورقتي البحثية بعنوان: "الترجمة من العربية واللغات الأخرى إلى التركية والعكس في العهد العثماني الأول (عهد الإزدهار) والعهد العثماني الثاني ( عهد الانحطاط): دراسة تاريخية مقارنة".وخلال الجلسة تعرفت على رئيس الجلسة الدكتور مهند مبيضين من أعضاء المركز الذي من صفاته أنه بنفس الوقت صاحب القلم الدقيق وصاحب البيان الفصيح.  وبعد نهاية الجلسة تعرفت على إمرأة ذات أخلاق حميدة و وصاحبة قلب صاف وفكر نقي, التي ومدحت مداخلتي بكلمات طيبة وعرفت على بمدير مؤسسة الفكر العربي الأستاذ أحمد فرحات قائلة أنه رجل  يحب العلم والعلماء والباحثين, ليفيدنك اللقاء معه, و أخذت لي موعد الزيارة من العلم العربي. تأثرت من إخلاص وقداسة هذه المرأة العربية اللبنانية وجزاها الله خيرا.
 وكذلك تعرفت على الإخوة الباحثين من البلاد العربية والعجمية منهم الدكتور صاحب عالم من الهند والدكتور ناصر السعدي من عمان. في الليلة خرجت مع الزملاء منهم سوري وأردني مهند مبيضين من الأردن  وناصر السعدي) وصاحب عالم الندوي.إلى السوق الحمراء , وهذا أول مشي  لي في شوارع بيروت, ففجأة لفت نظري إلى الحرم العربي أي إمرأة سورية التي كانت تناديني من خلفي في شوارع الحمراء:
"يا عمُّ أعطني شيئا, أنا سورية, أنا مريضة أنا مضروبة , ماعندي شئ لا ماء ولاخبز, ابني مريض, أعطني شيئا يا عمُّ , لا تتركني" .
فوالله ما كانت هذه الكلمات, من فم إمراة عربية بنائ تشق أقسى القلوب, إلا قنابل صوتية ضربت – وحتى الآن تضرب- طبل أذنيَّ بشدة هزت جميع طبقات دماغي حتى  ذرفت من حرارتها دموعي ولم أستطع أن أتمالك نفسي وأمسك دموعي. فلفت الزميل السوري  إلىَّ قائلا:
"هنا من الناس يشربون من نفس الكأس الذي أنت تشرب منه".
تعاظم حزني حينما رأيت بنات صغيرات سوريات  مثل أقمار في غلالة و أطفالا سوريين يتلألأ على وجوههم نور الشام  يمشون خائفين عراة بأمل في عيونهم تشبه البحر عمقا ولونا, أن هذا الأب المسلم الباكستاني سيعطينا شيئا, فوالله حينما لمست شعر رأس أحد من هؤلاء الورود السورية تسرب فجأة حب الأبوية في عروقي لهذا الطفل العربي السوري المشرد البائس المتسائل, فضممته إلى جانبي وهاجني البكاء على قلة بضاعتي وهواني وضعفي وعلى ضياع هؤلاء الأطفال  وضعف الأمة المسلمة فتذكرت قصص حاتم الطائي فلعلها تحتاج إلى إحياء من جديد. 
وها يا بنت العرب ويا ورد السوري تنتظر المعتصم  فإعلم إنه قد مات منذ زمان؛ كان يلبي  بصرخات المسلمات, يشهد التاريخ بوصوله إلى عمورية, ملبيا بصيحة إمرأة عمورية مسلمة, عابرا عقبات الجبال و ثابتا الحمية العربية على أرض الروم حتى اعتزت هذه البنت المسلمة بشرف لم يعرفه تاريخ الغرب ولن يعرفه أبدا. وها مات الشاب الثقفي الذي شق البحار ووصل إلى شواطئ السند ملبيا بصرخة العربيات المعتقلات من  قبل قراصنة السند بأمر من الملك الهندي راجا داهر.
وأحسست بشدة أن الأزمة السورية تتحول إلى أبشع أنواع الأزمات  في تاريخ المسلمين بحيث حامل القرآن يقوم بذبح قارئ القرآن وعامله من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ, مقارنة  بأزمات يواجهها المسلمون في كشمير وأفغانستان  وفلسطين حيث يقتل المسلمون بأيدى الكفرة.
في يوم الأحد ذهبت مع الزملاء الثلاثة من الأردن وعمان والهند إلى مغارة جعيتا في سيارة أجرة, في الطريق إليها بجانب البحر, تلذذت الأعين بمنظر أخاذ جذاب يبهر الزائر بهجته الجبلية من جانب ويرهبه بهيبته  البحرية من جانب آخر. صعدنا الجبل, والبيوت والمباني والسكنى بجانب الشارع تكوِّن منظرا خلابا يجذب الأنظار ويسحر القلوب ويسكن الروح. الهواء كان باردا يريح الجسم ويترك أثرها حتى  في العروق. أشترينا التذكرة وركبنا المعقد الهوائي كى نصل إلى المغارة, فركبت معنا فتاتان من فيليبين واللتان كانتا تعملان في البيوت ببيروت. وصلنا إلى المغارة, وأخذ الموظفون منا الجوالات وقيدوها في الخانات, دخلنا المغارة فسبحان الله رأينا قدرة الخالق داخلها, السطح العلوي كان مثل الرخام الذي ينظفه ويبيضه الماء المنزلق عليها من فوقها.رأيت في داخلها كهوفا مخوفة حقيقية مثل الأفلام الرهيبة. بعد الخروج من المغارة العليا توجهنا إلى المغارة السفلى في القطار, فرأيت الشباب العرب من إحدى المدارس العربية, فتشوقت أن أخذ صورة معهم, فقلت للأخ الأستاذ الدكتور مهند مبيضين أنني أريد صورة مع هؤلاء الشباب العرب, فدعاهم: يا شباب هيا, هذا الأستاذ الجامعي الباكستاني يريد معكم صورة, واستمر في كلامه قائلا: وهذا أستاذ من الهند, فجأة أسرع الطلاب جميعا إليه وأحاطوه ولم يتوجهوا إلىَّ أحد منهم وبدؤوا يتكلمون بحماس وتشوق : "أكشي كمار, بطل فلم هندي, أنا أحبه , وهذا سلمان خان وكذا وكذا بتواصل"  وتركوني قائما أضحك على خجلي, فبعد ما نبههم د.مهند يا شباب أستاذ باكستاني أيضا معكم. فتوجه إلى الشاب الذي كان واقفا في الأخير بقربي محولا وجهه إلى وأنا خجلا وضعت يدي على كتفه. أعتقد أنهم لم يفعلوا هذا عمدا ولكنني أحسست أن  الأفلام الهندية والعنونة العربية  والدبلجة  أثرت في نفوسهم حتى تراسخت أسماء الممثلين والأفلام في أذهان الشباب العرب. رأيت قوة الترجمة  التي لعبت دورا هاما وأساسيا في نقل الثقافة الهندية والكلمات الهندية إلى العرب. أما في باكستان  قد توجد أفلام ومسرحيات مؤثرة ومليئة بالدروس الخلقية والاجتماعية والتعليمية ومنها ما فيها الأغنية والرقص, ولكن بالأسف الشديد لم تتم ترجمة معظمها إلى العربية,إلا القليل منها قد دبلجت وعنونت إلى العربية. حينما ذكرت هذه القصة في الفصل مع تلاميذي فقالوا: لا نريد أن نزود أخواننا العرب بالأغنية والرقص والأعمال الفاحشة التي تخرب خلقهم, ولو فعلنا كما فعل الهند, فماذا سيكون جوابنا لنبينا محمد عليه الصلوات والتسليمات عن هذا الخراب والفساد الخلقي؟. فأرى أن هناك سببان الأول تكنيكي والثاني ديني: فالتكنيكي  هو الإهمال في ترجمة الأفلام والمسرجيات التاريخية والوثائقية الباكستانية, والثاني: من الموانع في حقل ترجمة الافلام والمسرحيات هو الاستحياء من استجواب النبي في صورة نقل الأشياء المخربة للأخلاق إلى أولاد النبي عليه السلام الذي, كما نعلم جميعا, جاء بالحياء والموددة والإيمان إلينا.
في يوم الإثنين ذهبت مع الزملاء إلى مؤسسة الفكر العربي رحبتنا موظفة (مريم ) بطريقة مؤدبة ومهذبة جدا, والتقيت برجل لو يسمح لي أن ألقبه   ب "درويش العلم والعربية والعروبة" متصفا بأعلى درجة الإخلاص والوفاء والمحبة, الأستاذ أحمد فرحات, مدير مؤسسة الفكر العربي. يجذب الأنظار بشخصيته  والقلوب بسحر الحب والوداد والصداقة.  استقبلنا بترحيب حار, عار من التكلفات,  ملئ بقوة جذابة, في مكبته الضيق, وأرى أنه يدل على سذاجته, وإقتناعه و زهده عن الخشم والخدم ولكن قلبه, كما أحسست, كان واسعا وسعة الكون. شجعنا على الكتابة العلمية والبحث عن واقع اللغة العربية في العالم و خاصة في باكستان, وأكرمنا بهدايا الكتب القيمة  التي قامت بترجمتها وإصدارها  المؤسسة. علمت من كلامه بأنه رجل عبقري وموسوعي, متصف  بمواصفات عديدة, وأحسست بأن نظرته عميقة عن القضايا يواجهها العالم الإسلامي عامة والعالم العربي خاصة. والصورة التي صورنا معه تدل على تفكيره الإقدامي بحيث يده اليمنى على كتفي ويده اليسرى على كتف زميل هندي, وهو واقف في الوسط كقائد مقدام  يرفع قدمه اليمنى. وكما نعلم - نحن المسلمون- أن بداية عمل باليمين بركة, نأكل باليمين, نصافح باليمين وندخل في المسجد بالقدم اليمنى, ونحتذي اليمنى... فأحسست أن العمل بالآداب الإسلامية من سجية هذا العلم اللبناني. فجزاءه الله خير الجزاء على كل ما قدم لنا.
يوم الثلاثاء كان يوم الوداع لهذه المدينة المباركة,ودعتها بدموع الاحترام , خرجت من غرفتى متوجها إلى  مكتب الاستقبال, رجعت بطاقة الغرفة إلى موظفة فتاة عربية مهذبة تكلمت بأدب واحترام " حضرتك أخذت شيئا من الثلاجة؟ فأجبت: لا, فقالت مبتسمة بقداسة " إذا تم جيك أوت" واحتفظت شاشة ذهني هذه الابتسامة المقدسة لي. فخرجت من الفندق, ركبت السيارة بمعية الأصدقاء والمسؤولين من المركز العربي, وكنت أفكر مجيئ في هذه المدينة كغريب و ذهابي منها كفرد من أهل البيت يترك الأصدقاء والأحباء المخلصين ورائه, مغردا:
بيروت عم تبكي
أنا يا بيروت أبكي
على فراقي  منك يا بيروت


[1] *- أستاذ مساعد في قسم الترجمة والترجمة الفورية, بكلية اللغة العربية الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد باكستان.